إلغاء مؤتمر جنيف- تساؤلات حول حياد سويسرا وحماية الفلسطينيين

المؤلف: د. محمود الحنفي09.13.2025
إلغاء مؤتمر جنيف- تساؤلات حول حياد سويسرا وحماية الفلسطينيين

في تحرك أثار استنكارًا واسعًا، أعلنت الحكومة السويسرية عن إلغاء المؤتمر الدولي الذي كان مزمعًا انعقاده في السابع من مارس/آذار 2025، والذي كان مخصصًا لبحث آليات تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا القرار المفاجئ أثار موجة من الإحباط والقلق لدى العديد من الأطراف المعنية.

وبررت السلطات السويسرية هذا الإلغاء بـ "عدم وجود دعم كافٍ من الدول" و"غياب التوافق الدولي". ومع ذلك، كشفت مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى أن هذا القرار جاء كنتيجة لضغوط سياسية مكثفة مارستها بعض الدول النافذة، مما يثير شكوكًا عميقة حول حياد سويسرا والتزامها الراسخ بمبادئ القانون الدولي، خاصة في ظل استمرار الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان بحق الشعب الفلسطيني.

هذا المؤتمر كان يهدف بشكل أساسي إلى التركيز على تفعيل بنود اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والتي تعتبر حجر الزاوية في حماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة والاحتلال. وتتجلى أهمية هذا المؤتمر في كونه يمثل فرصة ثمينة لـ:

  • إلقاء الضوء الساطع على الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة والمستمرة بحق الفلسطينيين.
  • دراسة معمقة للسبل الكفيلة بتفعيل العقوبات الدولية على إسرائيل؛ ردعًا لسياساتها غير الشرعية.
  • تقديم توصيات عملية للدول الموقعة لاتخاذ إجراءات ملموسة، مثل مقاطعة المستوطنات غير القانونية، أو تقييد التعاون العسكري المشبوه مع إسرائيل.
  • تقديم الدعم الكامل للتحقيقات الدولية المستقلة في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي تم طرحها أمام محكمة العدل الدولية.

إن إلغاء هذا المؤتمر لا يمثل مجرد انتكاسة دبلوماسية عابرة، بل يشكل تقويضًا خطيرًا للآليات الدولية الهادفة إلى حماية المدنيين الفلسطينيين، ويمنح الاحتلال الإسرائيلي غطاءً إضافيًا لمواصلة انتهاكاته الصارخة دون أدنى محاسبة.

في ضوء هذا القرار المؤسف، تتصاعد التساؤلات المشروعة حول قدرة المجتمع الدولي على فرض احترام قواعد القانون الدولي الإنساني، وحول مدى استعداد الدول للوفاء بمسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه الأحداث المأساوية التي تجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لماذا تم اختيار سويسرا التاريخية لعقد اتفاقيات جنيف؟

لقد جاءت اتفاقيات جنيف استجابةً للفظائع المروعة التي شهدتها الحروب، ولا سيما الحربين العالميتين المدمرتين، بهدف وضع أسس قانونية متينة لحماية المدنيين الأبرياء وأسرى الحرب والجرحى في خضم النزاعات المسلحة.

تم اختيار سويسرا لاستضافة هذه الاتفاقيات التاريخية؛ نظرًا لكونها دولة محايدة تاريخيًا لم تشارك قط في أي صراع دولي، مما جعلها وسيطًا موثوقًا به يحظى بقبول واسع النطاق. كما أنها تعتبر الموطن الأصلي للجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، التي قادت الجهود الدؤوبة لتأسيس هذه الاتفاقيات؛ بهدف ضمان الحد الأدنى من الإنسانية أثناء الحروب الطاحنة.

بالإضافة إلى ذلك، تحتضن جنيف العديد من المنظمات الدولية المرموقة، مثل الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الرائدة، مما عزز دورها المحوري كمرجع أساسي للقانون الإنساني الدولي، وجعلها الضامن الرئيسي لتنفيذ هذه الاتفاقيات على أرض الواقع.

لماذا تم إلغاء المؤتمر المصيري المقرر بشأن الأراضي الفلسطينية؟

أثار قرار إلغاء مؤتمر اتفاقية جنيف الرابعة، الذي كان مقررًا عقده في السابع من مارس/آذار 2025، جدلًا واسع النطاق وتساؤلات حادة حول الأسباب الحقيقية وراء هذا التراجع المفاجئ والمثير للريبة. وبينما بررت سويسرا هذا الإلغاء بحجج واهية مثل غياب التوافق الدولي ونقص المشاركة الفعالة، إلا أن الحقائق تشير إلى وجود شبكة معقدة من العوامل السياسية والدبلوماسية والقانونية التي لعبت دورًا حاسمًا في عرقلة انعقاد هذا المؤتمر المهم.

تراوحت هذه العوامل بين الضغوط الغربية المتزايدة، والاعتراضات الشديدة على صياغة البيان الختامي للمؤتمر، والخلافات العميقة حول تحميل إسرائيل المسؤولية القانونية الكاملة عن انتهاكاتها، إضافة إلى تراجع بعض الدول عن الحضور والمشاركة الفعالة، مما أدى إلى فقدان المؤتمر لثقله السياسي وقيمته الحقيقية.

لم يكن الموقف الإسرائيلي المتصلب بعيدًا عن هذه التطورات الدراماتيكية، إذ عارضت إسرائيل المؤتمر بشدة منذ البداية، واعتبرته جزءًا لا يتجزأ من "الحرب القانونية" الشرسة التي تستهدف سياساتها التوسعية في الأراضي المحتلة.

مارست تل أبيب ضغوطًا هائلة على حلفائها الغربيين لضمان عدم انعقاد المؤتمر بأي ثمن، كما عملت جاهدة على تقويض أية محاولة جادة لجعله منصة قانونية دولية قد تسفر عن فرض عقوبات اقتصادية أو تدابير قانونية رادعة ضدها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.

وفي المقابل، ورغم عدم إعلانها موقفًا رسميًا صريحًا، قدمت الولايات المتحدة دعمًا دبلوماسيًا خفيًا لإسرائيل، وساهمت بشكل فعال في خلق بيئة سياسية غير مواتية إطلاقًا لانعقاد المؤتمر، مما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع الدول الأوروبية عن دعم هذا الحدث بشكل واضح وملموس.

وإلى جانب ذلك، كانت المسودة الأولية للبيان الختامي التي أعدتها سويسرا مثار جدل واسع النطاق، إذ واجهت اعتراضات قوية من فلسطين ومنظمة التعاون الإسلامي، نظرًا لكونها لم تتضمن إجراءات ملزمة أو آليات واضحة المعالم لضمان امتثال إسرائيل التام لاتفاقية جنيف الرابعة.

كما كانت هناك محاولة غير مقبولة لمساواة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم بالفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال عبر الإشارة المشبوهة إلى "الانتهاكات من جميع الأطراف"، وهو ما أثار انتقادات لاذعة وغضبًا عارمًا من الدول العربية والإسلامية.

علاوة على ذلك، لم تأخذ المسودة بعين الاعتبار الرأي الاستشاري الهام لمحكمة العدل الدولية بشأن عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ما جعلها تبدو وكأنها مجرد بيان سياسي باهت وغير مُلزم قانونًا، بدلًا من أن تكون وثيقة قانونية قوية تدعم اتخاذ إجراءات ملموسة على أرض الواقع.

وفي السياق الأوروبي المتقلب، ظهرت تحفظات بريطانية وأوروبية أخرى على المسودة، حيث اعتبرت بعض الدول أن صياغتها غير متوازنة على الإطلاق، مما أدى إلى تعطيل إمكانية الوصول إلى إجماع دولي حقيقي يدعم انعقاد المؤتمر.

لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية وكافية داخل الاتحاد الأوروبي لاتخاذ موقف صارم وحازم ضد إسرائيل، خاصة في ظل المخاوف المتزايدة من التداعيات الاقتصادية والدبلوماسية المحتملة لمثل هذا الموقف.

أدى هذا التردد الواضح إلى تقليل عدد الدول الداعمة للمؤتمر، ما أدى بدوره إلى ضعف الحضور الدولي، حيث فضلت بعض الحكومات المترددة الامتناع عن المشاركة بدلًا من مواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية الهائلة.

وبالرغم من توجيه الدعوات الرسمية إلى 196 دولة حول العالم، فإن الاستجابة جاءت أقل بكثير من المتوقع، ما أعطى سويسرا مبررًا إضافيًا لإلغاء المؤتمر بشكل نهائي ومفاجئ.

تثار تساؤلات مشروعة حول ما إذا كان التقليل المتعمد للحضور جزءًا من خطة مُحكمة لإضعاف هذا الحدث سياسيًا، خصوصًا في ظل الشكوك القوية حول امتناع بعض الدول الغربية النافذة عن الحضور؛ لتجنب أي تصعيد قانوني محتمل ضد إسرائيل.

إن غياب الدعم الواسع النطاق جعل المؤتمر يفقد ثقله القانوني والدبلوماسي، مما دفع سويسرا المترددة إلى إلغائه بدلًا من عقده دون تأثير فعلي ملموس على أرض الواقع.

من جهة أخرى، كان لقرار سويسرا بعد سياسي داخلي ودولي، حيث وجدت نفسها في موقف حسّاس للغاية بين "حيادها التقليدي" والتزاماتها القانونية الراسخة بصفتها الدولة الوديعة لاتفاقيات جنيف.

لم ترغب جنيف في الدخول في مواجهة دبلوماسية قد تؤثر سلبًا على علاقاتها المتينة مع القوى الكبرى في العالم، خاصةً بعد أن واجهت انتقادات حادة من بعض الأطراف الغربية والإسرائيلية المتشددة؛ بسبب استعدادها لاستضافة هذا المؤتمر في المقام الأول.

في النهاية، فضلت سويسرا إلغاء المؤتمر بدلًا من تنظيم اجتماع يعاني من غياب التوافق الدولي اللازم، وهو ما يعكس بوضوح الحسابات السياسية الضيقة التي طغت للأسف على الاعتبارات القانونية والإنسانية النبيلة.

إن إلغاء هذا المؤتمر المؤلم لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية المطالبات العادلة بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنه يعكس بمرارة حجم التحديات السياسية الهائلة التي تعترض تنفيذ القانون الدولي الإنساني في القضايا الحساسة المتعلقة بإسرائيل.

هل سبق لسويسرا أن ألغت أنشطة مماثلة في الماضي؟

لطالما عُرفت سويسرا بحيادها الدبلوماسي الراسخ واستضافتها الكريمة للمؤتمرات الدولية الهامة، وخاصة تلك المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني. ومع ذلك، هناك سوابق تاريخية واضحة تشير إلى ترددها أو حتى إلغائها لأنشطة مماثلة تتعلق بالقضية الفلسطينية العادلة، وذلك تحت تأثير ضغوط سياسية دولية هائلة وتباينات حادة في وجهات النظر.

في الخامس من ديسمبر/كانون الأول من العام 2001، دعت سويسرا إلى عقد مؤتمر للأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة لمناقشة الأوضاع المتردية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية والانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة لحقوق الإنسان.

ورغم انعقاد هذا المؤتمر الهام، إلا أنه لم يستمر سوى 15 دقيقة فقط، حيث أُصدر بيان مقتضب أكد بشكل سطحي على انطباق الاتفاقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع ترك الباب مفتوحًا لإمكانية عقد مؤتمر آخر "في ضوء تطورات الوضع الإنساني المتردي في المنطقة". هذا الحدث المؤسف يعكس بوضوح كيف أن الضغوط السياسية الهائلة آنذاك حالت دون اتخاذ قرارات حاسمة وجادة، مما أدى إلى مؤتمر شكلي بحت دون أي أثر قانوني ملموس على أرض الواقع.

في ذلك الوقت العصيب، أعربت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل عن معارضتهما الشديدة لعقد هذا المؤتمر الطارئ؛ بحجة واهية مفادها أن انعقاده قد يعيق جهود السلام الجارية في الشرق الأوسط الملتهب.

أدى هذا الموقف المتصلب إلى تقليص فاعلية المؤتمر بشكل كبير، حيث لم يصدر عنه أي قرارات ملزمة قانونًا، مما جعله مجرد إجراء شكلي أكثر منه خطوة عملية جادة لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها الصارخة في الأراضي المحتلة.

أما في العام 2009، وبعد صدور تقرير غولدستون الموثق الذي وثق بدقة انتهاكات إسرائيل الفظيعة خلال الحرب العدوانية على قطاع غزة المحاصر، فقد تم تأجيل مناقشته المقررة في جنيف إلى أجل غير مسمى. صحيح أنه لم يكن لسويسرا دور مباشر في ذلك التأجيل المشبوه، إذ إنه تم بناءً على طلب ملح من السلطة الفلسطينية الضعيفة نتيجة ضغوط أميركية وإسرائيلية مكثفة؛ بحجة أن طرح هذا التقرير الحساس قد يؤثر سلبًا على عملية السلام المتعثرة.

لكن سويسرا، بصفتها الدولة الوديعة لاتفاقيات جنيف، لم تتخذ أيضًا أي خطوات فاعلة لدفعه نحو المساءلة الدولية الصارمة، مما يعكس بشكل واضح طبيعة سياساتها الحذرة وتوازناتها الدبلوماسية المعقدة.

تكشف هذه السوابق التاريخية الهامة أن سويسرا، رغم دورها المحوري كدولة محايدة وراعية لاتفاقيات جنيف، قد تجد نفسها في مواقف معقدة للغاية تتطلب توازنًا دقيقًا بين التزاماتها القانونية الثابتة والضغوط السياسية الدولية الهائلة.

وفي العديد من الحالات المؤسفة، يبدو جليًا أن هذه الضغوط الهائلة أدت إلى إضعاف دورها المحوري في تعزيز المساءلة الدولية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية العادلة.

وعمومًا، فإن إلغاء المؤتمر الذي كان مقررًا عقده هذا الشهر لتطبيق اتفاقية جنيف على الأراضي الفلسطينية المحتلة ليس بأي حال من الأحوال نهاية المطاف. بل إنه قد يكون حافزًا قويًا للدول الملتزمة بتطبيق القانون الدولي بحذافيره والمنظمات الحقوقية الدولية للبحث عن بدائل مبتكرة لتعزيز العدالة الدولية، سواء عبر عقد هذا المؤتمر الهام في دولة أخرى أكثر جرأة، أو من خلال الأمم المتحدة، أو حتى عبر المسارات القانونية المعقدة في محكمة العدل الدولية، أو المحاكم الوطنية ذات الاختصاص العالمي.

ويبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل ستتمكن تلك الجهات بدورها من تجاوز هذه الضغوط السياسية الهائلة وإيجاد طريق جديد لإعلاء صوت القانون الدولي العادل ومساءلة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة